في كل ليلة أراها وهي شديدة الحرص على إحكام غلق باب المنزل، أراقبها تدير المفتاح في كالون الباب مرة تلو أخرى، ومن تم تحرك مقبضه في محاولة منها للتأكد من أنه مغلق بالفعل. مسكينة هي، تظن أن لمسة الشر قد تزورنا على غفلة منا إن لم تثابر هي على فعل هذا . ومسكين هو أكثر حين يأمرها بإدارة المفتاح للمرة الثالثة و الأخيرة فيأمن قلبه من أشرار الليل .
و كصبية في مقتبل العمر أصدقهم، أرفع يداي عالياً " نسألك يا الله مسألة المساكين "، وبعدها أغلق نافذتي فلا أحد يعلم ما قد يتسرب عبر الهواء ويتشبع به القلب ليلاً فيقتلنا.
كنت كلما استيقظت على فاجعة ما في الجوار، أنقل نظراتي بينهم قبل أن ينفث أبي عبر دخانه بأسف بعضا من كلماته : " لو أنهم أغلقوا الباب جيداً .... " يهز كتفيه ويتابع " لكانوا ... " ! نهز أنا و أمي رأسينا بأسف مضاعف ...
إلى أن جاء ذاك الصباح البارد، فبالرغم من لطفه المتراقص في زوايا غرفتي، و بالرغم من ثقل البطانيات الصوفية حول هيكلي إلا أنني مازلت أتذكر أن يدا مثلجة أيقظتني ... و لم يكن هناك أحد ..هذا ما أدركته بعد أن استيقظت كلياً و نزلت من على سريري !
لقد نسي هذا الصباح شيئا ما ... أهو الندى ؟! بينما كنت أغسل وجهي حاولت أن أتذكر و بينما كنت أتوضأ للصلاة ...تذكرت !
تسارعت دقات قلبي و أنا أعود مهرولة إلى غرفتي لأزيل ذلك الغطاء الذي أخبرني بائع العصافير أنه سيحميهم من البرد والمرض و الضوضاء. أقرب وجهي نحو القفص فأجد عصفورتي الجميلة على ذاك العمود تتجه برأسها نحو القبلة، أطلق نفس ارتياح، ربما في غمرة انشغالها بالصلاة نسيت تغريدها الصباحي، هكذا فكرت . لكن أين كومة الريش الحبيبة ؟ أين هو عصفوري الحبيب؛ أين ميمي ؟!
أليس من الغريب أن أجده نائماً في ركن القفص ؟!
أفتح باب القفص، تطير عصفورتي نحوه، تنقره مرتين ومن تم تعود لتقف كما كانت .
لا فائدة؛ إنه لا يستيقظ !
هذا ما أرادت أن تخبرني به، وهذا ما كانت تصلي لأجله وهذا هو ما لم أستطع فهمه !
كيف رحل ؟! لقد رأيت أمي تغلق الباب جيداً ! لمَ لمْ يخبرني أحد أن بعض زوار الليل يتسللون عبر ثقب الباب ؟! أركض نحو باب المنزل ... لازال مغلقاً و حتى ثقب الباب مازال يسكنه مفتاحنا الأمين .
كيف إذن تسلل أحدهم إلى غرفتي، وخطف روح صغيري المسكين ومضى دون أن يسمح لي حتى بوداعه ! من يمتلك من ؟ وهل امتلكت يوماً شيئا؟
أعود إلى غرفتي بعيون غائمة وصوت متهدج، أخطف نظرة ماطرة نحو النافذة، هي أيضا مغلقة !
أحمل الصغير، أقبله بشغف بين عينيه وعلى جانبي جناحه المستسلم بسكون؛ أقبله بعدد الأيام التي فرد فيها جناحيه وقفز على رجليه كلما قلت له بمرح صبياني "هوبا ...هوبا ". تأخذني الذكريات، أتذكر تلك المرات التي قفزت فيها على قدمي لعله يقلدني، لكنه أعتاد أن يدير ظهره لي، و أعتدت أن أضحك .
هل كنت أبدو سخيفة، مملة، تافهة في عينيه ؟! هل بحثت عن من يقلدني و لم أفكر بمن يريد هو تقليده ؟ هل بحثت عن سعادتي فيه ولم يجد سعادته فيَ ؟ أتذكر تلك الأيام التي نقرته زوجته كثيراً ولم يكن ليؤذيها بقدر ما كان يدافع عن نفسه، هل كان يعلمني كيف يكون الحب دون أن أدري ؟ أتذكر كيف كان يعانى من مرض لم أجد له علاجا، كيف كان يسمح لي بوضع بضع قطرات من الدواء في عينيه وشرابه، وكيف كان يسكن من ارتجافه المرضي كلما مسحت على ريشه الناعم و همست إليه بـ " يا الله ". كان صغيري مؤمناً أكثر مني وكان قوياً ليحتمل الرحيل أكثر مني !
أحضر قماشا أبيض و عطرا اسمه حرير فلابد لصغيري من زينة يقابل بها الله . أمسح من بين دموعي على رأس عصفورتي المتماسكة، أهمس بصوت متحشرج " هذا ما يحدث يا صغيرتي حين نحب ذكرا ما ! " .
لا أظنها فهمت، و لا أظن أن كليهما قد فهما ما أعتدت على قوله لهما في السابق و مداعبتهما به، لكنني فهمت جيداً كل الحب و كل الإيمان وكل الجمال الذي خلق الله به هذه الأرواح الصغيرة .
على ملامح ذكرياتي كتبت :" إلى بائع العصافير الصغيرة، ما الذي أردت تلقيني إياه ؟ كيف أن الحياة قد تكون قصيرة جداً ؟ كيف أحيا دون الوقوع في حب أحدهم؟ كيف أصنع من أرواح من أحببتهم ذكرى وأنسى ؟ كيف أقول للعالم أنني بخير مع أنني لست كذلك ؟ كيف أكبر وأكبر ؟!
أتساءل الآن، هل تعمدت عدم إخباري بأن ذاك الغطاء السحري لن يحميهم من الموت ؟! هل خدعتني وبعثت لي موتا داخل موتٍ محشور في قفص؟! لقد كنت أفكر بشراء نفس الغطاء لسوريا وبورما، وربما لفلسطين، وربما لبلادي وربما لمن أحبهم... كان هذا قبل أن أخسر صغيري و اكتشف حقيقة الأمر !
أرجو أن تعلم جيداً أنك سواء قصدت ذلك أم لا ... لقد جعلتني أكبُر !
و عزائي الوحيد أنني كنت قد قررت أن أمنحهم ما لم تستطع أنت منحه، لكن الصغير استبق الأمر ورحل، فما كان مني إلا أن قررت إطلاقها هي أيضا فلا أستطيع إن أتصور زوجا لها سواه "
أعترف أنني شعرت بالوحدة لفترة، لكن هذا كان أفضل من تزايد عدد البؤساء في غرفتي .
و لم يكد يمر وقت طويل حتى أحسست أن جزءا ما بداخلي أيضا قد تحرر ...
ومابين روح ترفرف في السماء و روح وارتها يداي تحت الثرى ... أتنفس اللا شيء وأنتظر دوري .
حين علم أبي و أمي بالخبر، تعجبا كثيراً و حزنا كثيراً .
نصحتني أمي حينها بأن أكتب لعل حزني يتبخر. لا تعلم أمي أن الحزن باقٍ وأنني أنا من تبخرت .
ونصحني أبي ألاّ أخبر أحدا من الجوار فليس من الجيد أن يعلم الجميع أن باب منزلناً ليس محمياً بما فيه الكفاية، حيث سنكون حينها _من جديد _عرضه للخطر !
في اليوم التالي غير أبي قفل البيت، وأدارت أمي مفتاحنا أربع مرات .
وتعلمت أنا _في انتظار زيارة أخرى _أن أنام و نافذتي مفتوحة ... !
حين علم أبي و أمي بالخبر، تعجبا كثيراً و حزنا كثيراً .
نصحتني أمي حينها بأن أكتب لعل حزني يتبخر. لا تعلم أمي أن الحزن باقٍ وأنني أنا من تبخرت .
ونصحني أبي ألاّ أخبر أحدا من الجوار فليس من الجيد أن يعلم الجميع أن باب منزلناً ليس محمياً بما فيه الكفاية، حيث سنكون حينها _من جديد _عرضه للخطر !
في اليوم التالي غير أبي قفل البيت، وأدارت أمي مفتاحنا أربع مرات .
وتعلمت أنا _في انتظار زيارة أخرى _أن أنام و نافذتي مفتوحة ... !
اللهم إن لم يكن بك غضبا عليا فلا أبالي
Powered by WPeMatico
0 التعليقات :
إرسال تعليق